الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} {وما كان لنبي أن يغل. ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة. ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.. ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الغنائم! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ; ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه- صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال. فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا.. أي أن يحتجزوا شيئاً من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض، أو يخونوا إجمالاً في شيء: {وما كان لنبي أن يغل}.. ما كان له. فهو ليس من شأنه أصلاً ولا من طبعه ولا من خلقه. فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل. وليس نفياً لحله أو جوازه. فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتي أن يقع منها الغلول ابتداء.. وفي قراءة: «يُغلّ» على بناء الفعل لغير الفاعل. أي لا يجوز أن يخان. ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئاً.. فيكون نهياً عن خيانة النبي في شيء. وهو يتمشى مع عجز الآية. وهي قراءة الحسن البصري. ثم يهدد الذين يغلون ويخفون شيئاً من المال العام أو من الغنائم ذلك التهديد المخيف: {ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.. روى الإمام أحمد. حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبة. على الصدقة. فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال:» ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده. لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته وإن بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر «.. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه. ثم قال: اللهم هل بلغت؟»- ثلاثاً-.. (وأخرجه الشيخان) وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: «قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوماً فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره. ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت. فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك» «.. (وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان).. وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن عدي بن عميرة الكندي. قال:» قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس. من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة».. قال: فقام رجل من الأنصار أسود- قال مجاهد: هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه- فقال: يا رسول الله، أقبل مني عملك. قال: «وما ذاك؟» قال: سمعتك تقول: كذا وكذا. قال: وأنا أقول ذلك الآن. من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره. فما أوتي منه أخذه; وما نهي عنه انتهى «. (ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع).. وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة; حتى أتت بالعجب العجاب; وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية. وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة لا يراه أحد فيأتي به إلى أميره لا تحدثه نفسه بشيء منه خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلاً. وكانت الآخرة في حسه واقعاً، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها. وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه. فالآخرة كانت حقيقة يعيشها لا وعداً بعيداً! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت وهم لا يظلمون.. روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض. فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما آتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأناً. فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس.. وقد حملت الغنائم إلى عمر- رضي الله عنه- بعد القادسية وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن.. فنظر- رضي الله عنه- إلى ما أداه الجند في غبطة وقال: «إن قوماً أدوا هذا لأميرهم لأمناء».. وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير. ثم يستطرد السياق- في معرض الحديث عن الغنائم والغلول- يوازن بين القيم.. القيم الحقيقية التي يليق أن يلتفت إليها القلب المؤمن وأن يشغل بها: {أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير؟ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون}.. إنها النقلة التي تصغر في ظلها الغنائم ويصغر في ظلها التفكير في هذه الأعراض. وهي لمسة من لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب ورفع اهتماماتها وتوسيع آفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل. {أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}.. هذه هي القيم، وهذا هو مجال الطمع! ومجال الاختيار. وهذا هو ميدان الكسب والخسارة. وشتان بين من يتبع رضوان الله فيفوز به ومن يعود وفي وطابه سخط الله! يذهب به إلى جهنم.. وبئس المصير! هذه درجة وهذه درجة.. وشتان شتان: {هم درجات عند الله}.. وكل ينال درجته باستحقاق فلا ظلم ولا إجحاف ولا محاباة ولا جزاف! {والله بصير بما يعملون}.. ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل: شخص الرسول- صلى الله عليه وسلم- ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين. {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة. حقيقة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقيمتها الذاتية وعظم المنة الإلهية بها ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة.. إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة: إنها تجيء ابتداء تعقيباً على الغنائم والطمع فيها والغلول والانشغال بهذا الأمر الصغير الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة وبدل النصر هزيمة وفعل بالمسلمين الأفاعيل.. فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة والمنة العظيمة المتمثلة فيها لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة. تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها وأسلاب الأرض كلها وإعراض الأرض كلها شيئاً تافهاً زهيداً لا يذكر ولا يقدر. شيئاً تخجل النفس المؤمنة أن تذكره بل تستحي أن تفكر فيه! فضلاً عن أن تشغل به! وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة.. فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة وما تمثله من منة عظيمة لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة تصغر في ظلها الآلام والخسائر وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات. على حين تعظم المنة ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق. ثم.. الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال ومن وضع إلى وضع ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمراً ضخماً في تاريخ الأرض وفي حياة البشر والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول- صلى الله عليه وسلم- فما ينبغي لأمة هذا شأنها أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم ولا أن تجزع من التضحيات والآلام التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة.. هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق. نذكرها باختصار وإجمال لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}.. إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولاً وأن يكون هذا الرسول {من أنفسهم}.. إن العناية من الله الجليل بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي. المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر. وإلا فمن هم هؤلاء الناس ومن هم هؤلاء الخلق حتى يذكرهم الله هذا الذكر ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم أن يرسل لهم رسولاً من عنده يحدثهم بآياته- سبحانه- وكلماته لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟ وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول {من أنفسهم}.. لم يقل «منهم» فإن للتعبير القرآني {من أنفسهم} ظلالاً عميقة الإيحاء والدلالة.. إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس لا صلة الفرد بالجنس. فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى. إنما هي أعمق من ذلك وأرقى. ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله. فهو منة على المؤمنين.. فالمنة مضاعفة ممثلة في إرسال الرسول وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب. ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية.. في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها. في تكريم الله لهم. بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل: {يتلو عليهم آياته}.. ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة! ولو تأمل أن الله الجليل- سبحانه- يتكرم عليه فيخاطبه بكلماته. يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته; وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها. ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو- هو الإنسان- هو العبد الصغير الضئيل- وعن حياته وعن خوالجه وعن حركاته وسكناته. يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة وهذا التفضل وهذا العطاء؟ إن الله الجليل غني عن العالمين. وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج.. ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ويتلمسه بعنايته ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته! فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء! {ويزكيهم}.. يطهرهم ويرفعهم وينقيهم. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم. ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم. ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم.. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته.. ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم. وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها. من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده. . يقول جعفر: «أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.. ومن أرجاسها ما حكته عائشة- رضي الله عنها- وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية: » إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء. فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه! ويعتزلها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت. فهو إبنك يا فلان. تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها. ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل! والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها- وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً- فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك! «.. ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق. ويكفي تصور الرجل وهو يرسل امرأته إلى» فلان «لتأتي له منه بولد نجيب. تماماً كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب لتأتي له منه بنتاج جيد! ويكفي تصور الرجال- ما دون العشرة!- يدخلون إلى المرأة مجتمعين-» كلهم يصيبها! «.. ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها! أما البغاء- وهو الصورة الرابعة- فهو البغاء! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة! لا يجد في ذلك معرة! ولا يمتنع من ذلك! إنه الوحل. الذي طهر الإسلام منه العرب. وزكاهم. وكانوا- لولا الإسلام- غارقين إلى الأذقان فيه! ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفاً من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية. يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»: «وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف تؤكل حقوقها وتبتز أموالها وتحرم من إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة. عن ابن عباس قال:» كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها أو تموت فيذهب بمالها «.. وقال عطاء بن رباح:» إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم «.. وقال السدّي: إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها». وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها يؤخذ مما تؤتى من مهر وتمسك ضراراً للاعتداء. وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة. ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث. وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد. «وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد. ذكر الهيثم بن عدي- على ما حكاه عنه الميداني- أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة. فجاء الإسلام وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد. فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن. ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء. أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصفات. ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق، وخوف الفقر.. » وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل. وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات. وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق «.. ومن أرجاسها- وأصل هذه الأرجاس جميعاً- الشرك والوثنية الهابطة الساذجة: كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه: » انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها. فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص بل كان لكل بيت صنم خصوصي. قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً «. واستهترت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتاً ومنهم من اتخذ صنماً; ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب. وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بني لعبادة الله وحده- وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنماً. وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة. روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً هو خيراً منه القيناه وأخذنا الآخر ; فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به. وقال الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً وجعل ثلاث أثافيّ لقدره وإذا ارتحل تركه. » وكان للعرب- شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان- آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب. فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله. واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن. وقال صاعد: كانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطي سهيلاً. وقيس الشعري العبور. وأسد عطارداً «. ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء. ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة التي تشغل اهتماماتهم فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة: » هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر. فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة وما ذاك إلا أن كليباً رئيس معد رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها; وقتل جساس بن مرة كليباً واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب وكانت كما قال المهلهل أخو كليب: «قد فني الحياة وثكلت الأمهات ويتم الأولاد. دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن». «وكذلك حرب داحس والغبراء. فما كان سببها إلا أن داحساً فرس قيس بن زهير كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل. وتلا ذلك قتل. ثم أخذ بالثأر. ونصر القبائل لأبنائها وأسر ونزح للقبائل وقتل في ذلك ألوف من الناس «. وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة. إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ولا فكرة للبشرية ولا دور للإنسانية يشغلهم عن هذا السفساف.. ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة.. وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟ إن الجاهلية هي الجاهلية. ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهم موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ومن شريعة- منبثقة من هذه العقيدة- تحكم حياتهم فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة.. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها. إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها. ومسابقات جمالها ومراقصها وحاناتها. وإذاعاتها. ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها.. إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون.. وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت وكل نظام وكل تجمع إنساني.. نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية. إن البشرية تتآكل إنسانيتها وتتحلل آدميتها وهي تلهث وراء الحيوان ومثيرات الحيوان لتلحق بعالمه الهابط! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر. لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة ومن نظام العقيدة ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالاً. أمية القلم وأمية العقل سواء. وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة في أي باب من الأبواب. وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشئ معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب. فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا وحكماء العالم، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان. والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة- بإذن الله- لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة; من النواحي الأخلاقية والاجتماعية; وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي والرخاء الحضاري! {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. ضلال في التصور والاعتقاد وضلال في مفهومات الحياة وضلال في الغاية والاتجاه وضلال في العادات والسلوك وضلال في الأنظمة والأوضاع وضلال في المجتمع والأخلاق.. والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون- ولا شك- ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام; وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان. كانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده- هو الذي نقلهم من طور القبيلة واهتمامات القبيلة وثارات القبيلة لا ليكونوا أمة فحسب. ولكن ليكونوا- على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن- أمة تقود البشرية وترسم لها مثلها ومناهج حياتها وأنظمتها كذلك في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل. كانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده- هو الذي منحهم وجودهم القومي ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي.. وقبل كل شيء وأهم من كل شيء.. وجودهم الإنساني الذي يرفع إنسانيتهم ويكرّم آدميتهم ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم. والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك وعلموها كيف تحترم «الإنسان» وتكرمه بتكريم الله. غير مسبوقين في هذا لا في الجزيرة العربية ولا في أي مكان.. وفي اللفتة السابقة إلى «الشورى» طرف من هذا المنهج الإلهي، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله. وكانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده- هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم، ونظرية للحياة البشرية ومذهباً مميزاً للحياة الإنسانية.. والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب تقدمه للبشرية لتدفع بالبشرية إلى الأمام. وقد كان الإسلام وتصوره للوجود ورأيه في الحياة وشريعته للمجتمع وتنظيمه للحياة البشرية ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله «الإنسان».. كان الإسلام بخصائصه هذه هو «بطاقة الشخصية» التي تقدم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة. وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم; وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً- كما كانوا- لا يعرفهم أحد ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟ يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول. والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة. وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة! يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق تنحني له الجباه ويغرقون به أسواقها ويغطون به على ما عندها من إنتاج، لقد سبقتهم شعوب كثيرة في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار! يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية. وتشقى بها جميعاً غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟ لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شيء إلا هذا المنهج الفريد. لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها وأكرمهم بها. وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس! إنها- وحدها- بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديماً للبشرية فأحنت لها هامتها. والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم فيكون فيها الخلاص والإنقاذ. إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة. وهي التي تقدم أكبر منهج. وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة. والعرب يملكون هذه الرسالة- وهم فيها أصلاء وغيرهم من الشعوب هم شركاء- فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟! لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان.. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان! ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة والتعقيب عليها; فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم- وهم المسلمون- مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة وتصوغهم صياغة واقعية تتعامل مع واقع الأمر وطبيعة السنن وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحداً لا يأخذ بالسنن ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة; وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم!.. ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة- التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة- بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج; وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين; فيكشف لهم عن حكمة ما وقع وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها ; وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها وليمحص قلوبهم ويميز صفوفهم من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث. فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره. . وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير. وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم! هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانهم- وقعدوا-: لو أطاعونا ما قتلوا. قل: فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}.. لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم; وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم; وباستكمال العدة التي في طاقتهم وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله. وسنة الله لا تحابي أحداً.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير. فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس. فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.. ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك ولا يضيع هباء. فإن استسلامهم لله وحملهم لرايته وعزمهم على طاعته والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية- بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح- وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد في نقاء العقيدة وتمحيص القلوب وتطهير الصفوف; وتؤهل للنصر الموعود; وتنتهي بالخير والبركة.. ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته. بل تمدهم بزاد الطريق. مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق. وبهذا الوضوح والصرامة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة ; وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع; ويكشف عن السبب القريب من أفعالها; كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره- سبحانه- ويواجه المنافقين بحقيقة الموت التي لا يعصم منها حذر ولا قعود: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم. إن الله على كل شيء قدير}.. والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا; والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير; والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم وهم المسلمون وهم يجاهدون في سبيل الله وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها: أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش. وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم. وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين! ويذكرهم الله هذا كله وهو يرد على دهشتهم المتسائلة فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب: {قل: هو من عند أنفسكم}.. أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله- صلى الله عليه وسلم- وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة.. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم بانطباق سنة الله عليكم حين عرّضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه مسلماً كان أو مشركاً ولا تنخرق محاباة له فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء! {إن الله على كل شيء قدير}.. ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته وأن يحكم ناموسه وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث. ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها. وقدر الله دائماً من وراء كل أمر يحدث ومن وراء كل حركة وكل نأمة وكل انبثاقة في هذا الكون كله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله...}.. لم يقع مصادفة ولا جزافاً ولم يقع عبثاً ولا سدى. فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون; ومقدر لها علتها ونتائجها; وهي في مجموعها- ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي- تحقق الحكمة الكامنة وراءها; وتكمل «التصميم» النهائي للكون في مجموعه! إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية، ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية.. هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية.. وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة. وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها.. والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء- ومن بينها الإنسان- والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره فتنطبق عليه وتؤثر فيه.. ولكن هذا كله يقع موافقاً لقدر الله ومشيئته ; ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره.. وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره. فليس شيء منها خارجاً على السنن والناموس. ولا مقابلاً لها ومناهضاً لفعلها كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة. . كلا. ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي.. فالإنسان ليس نداً لله ولا عدواً له كذلك. والله- سبحانه- حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض لم يجعل شيئاً من هذا كله متعارضاً مع سنته- سبحانه- ولا مناهضاً لمشيئته ولا خارجاً كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير.. ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر ; وأن يتحرك ويؤثر ; وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه ; وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملاً من لذة وألم وراحة وتعب وسعادة وشقاوة.. وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته قدر الله المحيط بكل شيء في تناسق وتوازن.. وهذا الذي وقع في غزوة أحد مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل. فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة. فخالفوا هم عن سنته وشرطه فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له.. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور ومن ضعف أو قصور.. وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين- من وراء الألم والضر- وقد نالوه وفق سنة الله كذلك. فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه يعينهم الله ويرعاهم ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي ولو ذاقوا مغبتها من الألم- لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد. وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة وهم يواجهون قدر الله ويتعاملون مع سنته في الحياة; وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء وأن خطأهم وصوابهم- وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم- متساوق مع قدر الله وحكمته وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله.. وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان. يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. والله أعلم بما يكتمون}.. وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه ويسميهم: {الذين نافقوا}.. وقد كشفهم الله في هذه الموقعة وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان}.. وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالاً سيكون بين المسلمين والمشركين. فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر وإنما هم: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}.. فقد كان في قلوبهم النفاق الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها. فالذي كان برأس النفاق- عبد الله بن أبي- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه يوم أحد. والذي كان به قبل هذا أن قدومه- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم وجعل الرياسة لدين الله ولحامل هذا الدين!.. فهذا الذي كان في قلوبهم والذي جعلهم يرجعون يوم أحد والمشركون على أبواب المدينة وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام وهو يقول لهم: {تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالاً! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية: {والله أعلم بما يكتمون}.. ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: {الذين قالوا لإخوانهم- وقعدوا- لو أطاعونا ما قتلوا}.. فهم لم يكتفوا بالتخلف- والمعركة على الأبواب- وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس وبخاصة أن عبد الله بن أبي كان ما يزال سيداً في قومه ولم يكشف لهم نفاقه بعد ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم. بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة وهم يقولون: {لو أطاعونا ما قتلوا}.. فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ويجعلون من طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- واتباعه مغرماً ومضرة. وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ولحتمية الأجل ولحقيقة الموت والحياة وتعلقهما بقدر الله وحده.. ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع الذي يرد كيدهم من ناحية ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية: {قل: فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}.. فالموت يصيب المجاهد والقاعد والشجاع والجبان. ولا يرده حرص ولا حذر. ولا يؤجله جبن ولا قعود.. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء.. وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم فيرد كيدهم اللئيم ويقر الحق في نصابه ويثبت قلوب المسلمين. ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين.. ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة تأخيره ذكر هذا الحادث- حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة- وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها.. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق.. وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية.. فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها; وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها; وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها. . ثم يشير هذه الإشارة إلى {الذين نافقوا}. وفعلتهم وتصرفهم بعدها وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح.. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ووزن الأعمال والأشخاص ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص- بعد ذلك- فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح بذلك الحس الإيماني الصحيح.. ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد. فعبد الله بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيماً في قومه- كما أسلفنا- وقد ورم أنفه لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه- لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة- وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم وبلبلة في الأفكار كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر.. فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله; وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها; وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق. مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح: {الذين نافقوا} والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: {ألم تر إلى الذين نافقوا؟} وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ليبقى نكره في: {الذين نافقوا} كما يستحق من يفعل فعلته وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان.. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق.. وبعد أن تستريح القلوب وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون وعلى حقيقة قدر الله في الأمور وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير.. ثم على حقيقة الأجل المكتوب والموت المقدور الذي لا يؤجله قعود ولا يقدمه خروج ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير.. بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى.. حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها.. حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء. أحياء عند ربهم يرزقون; لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها فهم متأثرون بها مؤثرون فيها والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة. ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح وخرجت تتعقب قريشاً بعد ذهابها خوفاً من كرة قريش على المدينة ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش متوكلة على الله وحده محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. الذين استجابوا لله والرسول. من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم.. إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}.. لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: {لو أطاعونا ما قتلوا} فقال يتحداهم: {قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}.. شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة. فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله- وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى- فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم {يرزقون} عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث فوق ما نالهم من فضل الله وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله..؟ إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدّل- بل تنشئ إنشاء- تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها وهي موصولة لا تنقطع ; فليس الموت خاتمة المطاف ; بل ليس حاجزاً بين ما قبله وما بعده على الإطلاق! إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين واستقبالهم للحياة والموت وتصورهم لما هنا وما هناك. {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}.. والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله وفارقوا هذه الحياة وبعدوا عن أعين الناس.. أموات. . ونص كذلك في إثبات أنهم {أحياء}.. {عند ربهم}. ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات وصف ما لهم من خصائص الحياة. فهم {يرزقون}.. ومع أننا نحن- في هذه الفانية- لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة وما بينهما من انفصال والتئام. وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها; وأننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها. لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها; وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى. فهؤلاء ناس منا يقتلون وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم: {قتلوا في سبيل الله} ; وتجردوا له من كل الأعراض والأغراض الجزئية الصغيرة; واتصلت أرواحهم بالله فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك فإن الله- سبحانه- يخبرنا في الخبر الصادق أنهم ليسوا أمواتاً. وينهانا أن نحسبهم كذلك ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده وأنهم يرزقون. فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.. ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى: {فرحين بما آتاهم الله من فضله}.. فهم يستقبلون رزق الله بالفرح; لأنهم يدركون أنه {من فضله} عليهم. فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله. فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟ ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم; وهم مستبشرون لهم; لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}. إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم {الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} ولم تنقطع بهم صلاتهم. إنهم {أحياء} كذلك معهم مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم: {أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.. وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم {عند ربهم} ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين. وأنه لا يضيع أجر المؤمنين.. فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء- الذين قتلوا في سبيل الله؟- وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم; وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس عن هذه الرحلة إلى جوار الله مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة! إنها تعديل كامل لمفهوم الموت- متى كان في سبيل الله- وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم. وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة ومن حياة إلى حياة! ووفقاً لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة في- سبيل الله- وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة. فيرجع إليها هناك. وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن {المؤمنين} الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم فيعين من هم; ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}.. إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة. وهم مثخنون بالجراح. وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة. وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ومرارة الهزيمة وشدة الكرب. وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا فقل عددهم فوق ما هم مثخنون بالجراح! ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم- ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال!- فاستجابوا.. استجابوا لدعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهي دعوة الله- كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك- فاستجابوا بهذا لله والرسول {من بعد ما أصابهم القرح} ونزل بهم الضر وأثخنتهم الجراح. لقد دعاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودعاهم وحدهم. وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى وتومئ إلى حقائق كبرى نشير إلى شيء منها: فلعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم هو شعور الهزيمة وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش وتعقبها كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء وليست نهاية المطاف. وأنهم بعد ذلك أقوياء وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء إنما هي واحدة وتمضي ولهم الكرة عليهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله والرسول. ولعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته. فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشاً أنها لم تنل من المسلمين منالاً. وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها.. وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة. ولعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاء أن يشعر المسلمين وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض.. حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها. ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها وليس لهم من غاية في حياتهم سواها. عقيدة يعيشون لها وحدها فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ولا يقدمونها فداها.. لقد كان هذا أمراً جديداً في هذه الأرض في ذلك الحين. ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها- بعد أن يشعر المؤمنون- بقيام هذا الأمر الجديد وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة. ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم- كما أبلغهم رسل أبي سفيان- وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا-: {الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل}.. هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلاناً قوياً عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة. وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة.. وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة: قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحداً قال: شهدنا أحداً مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنا وأخي، فرجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي- أو قال لي- أتفوتنا غزوة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟- والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكنت أيسر جراحاً منه فكان إذا غلب حملته عقبة.. حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام. فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع. وقال يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن. ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على نفسي. فتخلف على أخوتك. فتخلفت عليهن.. فأذن له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج معه.. وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة في تلك النفوس الكبيرة. النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلاً وترضى به وحده وتكتفي وتزداد إيماناً به في ساعة الشدة وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس: {حسبنا الله ونعم الوكيل}.. ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه المكتفين به المتجردين له: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله}. فأصابوا النجاة- لم يمسسهم سوء- ونالوا رضوان الله. وعادوا بالنجاة والرضى. {بنعمة من الله وفضل}.. فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء: نعمة الله وفضله على من يشاء. ومع التنويه بموقفهم الرائع فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله لأن هذا هو الأصل الكبير الذي يرجع إليه كل فضل وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل! {والله ذو فضل عظيم}.. بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله صورتهم هذه وموقفهم هذا وهي صورة رفيعة، وهو موقف كريم. وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة. نضجت. وتناسقت. واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها. وانجلى الغبش عن تصورها. وأخذت الأمر جداً كله. وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف. فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس.. والفارق هائل والمسافة بعيدة.. لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزاً عنيفاً. أطار الغبش وأيقظ القلوب وثبت الأقدام وملأ النفوس بالعزم والتصميم.. نعم. وكان فضل الله عظيماً في الابتلاء المرير.. وأخيراً يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع.. إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة.. ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان وأن يبطلوا محاولته. فلا يخافوا أولياءه هؤلاء ولا يخشوهم بل يخافوا الله وحده. فهو وحده القوي القاهر القادر الذي ينبغي أن يخاف: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه. فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ويلبسهم لباس القوة والقدرة ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول وأنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ودفعهم عن الشر والفساد. والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً لا تقف في وجهه معارضة ولا يصمد له مدافع ولا يغلبه من المعارضين غالب.. الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا. فتحت ستار الخوف والرهبة وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكراً والمنكر معروفاً وينشرون الفساد والباطل والضلال ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير.. دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة. بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له وجلاء الحق الذي يطمسونه.. والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته.. ومن هنا يكشفه الله ويوقفه عارياً لا يستره ثوب من كيده ومكره. ويعرف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته ليكونوا منها على حذر. فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم. فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته.. إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر. هي قوة الله. وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء. فلا تقف لهم قوة في الأرض.. لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان: {فلا تخافوهم. وخافون إن كنتم مؤمنين}.. وأخيراً يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن من مسارعة الكفار إلى الكفر ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف! فإن هذا لن يضر الله شيئاً. وإنما هي فتنة الله لهم وقدر الله بهم فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته! وقد كان الهدى مبذولاً لهم فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر. وأملي لهم ليزدادوا إثماً مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء. فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء. . ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها: من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين. إنها تمييز الخبيث من الطيب بالاختبار والابتلاء فقد كان أمر القلوب غيباً مما يستأثر الله به ولا يطلع الناس عليه فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر وبالوسيلة التي يدركها البشر.. فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين ليتكشف المخبوء في القلوب ويتميز الخبيث من الطيب ; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم. إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم. ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين. ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وأن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم}.. إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة.. فهناك دائماً تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل. ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة! هناك دائماً الشبهة الكاذبة أو الأمنية العاتبة: لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة وفيها فتنة للقلوب وهزة؟! ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب: «أنى هذا؟!».. ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير والبيان الأخير. ويريح الله القلوب المتعبة ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله: أمس واليوم وغداً. وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية: إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك. وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان ليس معناه أن الله تاركه أو أنه من القوة بحيث لا يغلب أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً.. وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه.. كلا. إنما هي حكمة وتدبير.. هنا وهناك.. يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ; وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار ولينال أشد العذاب باستحقاق!.. ويبتلى الحق ليميز الخبيث من الطيب ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت.. فهو الكسب للحق والخسار للباطل مضاعفاً هذا وذاك! هنا وهناك! {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم}.. إنه يواسي النبي- صلى الله عليه وسلم- ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره; وهو يرى المغالين في الكفر يسارعون فيه ويمضون بعنف واندفاع وسرعة كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه! وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية. فبعض الناس يرى مشتداً في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية; كأنه يجهد لنيل السبق فيه! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف أو من يهتف له من الإمام إلى جائزة تُنال! وكان الحزن يساور قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حسرة على هؤلاء العباد ; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار وهو لا يملك لهم رداً وهم لا يسمعون له نذارة! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر من الشر والأذى يصيب المسلمين ويصيب دعوة الله وسيرها بين الجماهير التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية.. فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا.. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم. فيطمئن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويواسي قلبه ويمسح عنه الحزن الذي يساوره. {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. إنهم لن يضروا الله شيئاً}.. وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئاً. والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان. إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو; وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو. ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعاتق المسلمين جملة.. فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله وهم أضعف من أن يضروا الله شيئاً.. وهم إذن لن يضروا دعوته. ولن يضروا حملة هذه الدعوة. مهما سارعوا في الكفر ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى. إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين وينتفشون غالبين وهم أعداؤه المباشرون؟ لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى! {يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة}.. يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله; وأن يحملوا وزرهم كله وأن يستحقوا عذابهم كله وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق! {ولهم عذاب عظيم}. ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان. {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم}.. ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم. دلائله مبثوثة في صفحات الكون وفي أعماق الفطرة. وأماراته قائمة في «تصميم» هذا الوجود العجيب وفي تناسقه وتكامله الغريب، وقائمة كذلك في «تصميم» الفطرة المباشرة، وتجاوبها مع هذا الوجود، وشعورها باليد الصانعة، وبطابع الصنعة البارعة.. ثم إن الدعوة إلى الإيمان- بعد هذا كله- قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة ومن جمال التناسق ومن صلاحية للحياة والناس.. أجل كان الإيمان مبذولاً لهم فباعوه واشتروا به الكفر على علم وعن بينة ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر ليستنفدوا رصيدهم كله ولا يستبقوا لهم حظاً من ثواب الآخرة. ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئاً. فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء. ولم ينزل الله بالضلالة سلطاناً ; ولم يجعل في الباطل قوة. فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته بهذه القوة الضئيلة الهزيلة مهما انتفشت ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين! {ولهم عذاب أليم}.. أشد إيلاماً- بما لا يقاس- مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام! {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم. إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. ولهم عذاب مهين}.. وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور والشبهة التي تجول في بعض القلوب والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب ممتعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ; يحسبون أن الله- حاشاه- يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله- سبحانه- لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل فيدع للباطل أن يحطم الحق ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم.. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين يلجون في عتوهم ويسارعون في كفرهم ويلجون في طغيانهم ويظنون أن الأمر قد استقام لهم وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!! وهذا كله وهم باطل وظن بالله غير الحق والأمر ليس كذلك. وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن. . إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة ; وإنما هو الكيد المتين وإنما هو الاستدراج البعيد: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم.. إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} ! ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء الموقظ لابتلاهم.. ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة- غمرة النعمة والسلطان- بالابتلاء! {ولهم عذاب مهين}.. والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء. وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير. فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم- ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء- فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين. وهكذا تستقر القلوب وتطمئن النفوس وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم. ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين أن يميزهم من المنافقين الذين اندسوا في الصفوف تحت تأثير ملابسات شتى ليست من حب الإسلام في شيء. فابتلاهم الله هذا الابتلاء- في أحد بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم ليميز الخبيث من الطيب عن هذا الطريق: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب. وما كان الله ليطلعكم على الغيب. ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء. فآمنوا بالله ورسله. وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم}.. ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله- سبحانه- وليس من مقتضى ألوهيته وليس من فعل سنته أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز ; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ومظهر الإسلام بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً ونظاماً جديداً.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك ويقتضي ألا يكون في الصف خلل ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض ; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.. وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله- سبحانه- أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة! كذلك ما كان من شأن الله- سبحانه- أن يطلع البشر على الغيب الذي استأثر به فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس مصمماً على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض. وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معداً لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها ألا يحرك يداً ولا رجلاً في عمارة الأرض أو أن يظل قلقاً مشغولاً بهذه المصائر بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض! من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه ولا من مقتضى حكمته ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب. إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم وتجريده من الغبش وتمحيصه من النفاق وإعداده للدور الكوني العظيم الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟ {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء}.. وعن طريق الرسالة وعن طريق الإيمان بها أو الكفر وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد.. عن طريق هذا كله يتم شأن الله وتتحقق سنته ويميز الله الخبيث من الطيب ويمحص القلوب ويطهر النفوس.. ويكون من قدر الله ما يكون.. وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله وهي تتحقق في الحياة ; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة.. وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه ويلوح لهم بفضل الله العظيم الذي ينتظر المؤمنين. {فآمنوا بالله ورسله. وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم}.. فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان خير خاتمة لاستعراض الأحداث في «أحد» والتعقيب على هذه الأحداث.. وبعد.. فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال. فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال: 1- لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية وفي طريقته في العمل في حياة البشر. وهي حقيقة أولية بسيطة ولكنها كثيراً ما تنسى أو لا تدرك ابتداء فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين: في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية وفي دوره أمس واليوم وغداً. إن بعضنا ينتظر من هذا الدين- ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية- أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة! دون اعتبار لطبيعة البشر ولطاقتهم الفطرية ولواقعهم المادي في أية مرحلة من مراحل نموهم وفي أية بيئة من بيئاتهم! وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية وحدود الواقع المادي للبشر. وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه فيتأثران به في فترات تأثراً واضحاً أو يؤثران في مدى استجابة الناس له وقد يكون تأثيرهما مضاداً في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين وجاذبية المطامع والشهوات دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاهاً كاملاً.. حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها!- ما دام هذا الدين من عند الله- أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً! وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة. إن هذا الدين منهج للحياة البشرية يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري في حدود الطاقة البشرية ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه. وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة في أية خطة وفي أية خطوة عن طبيعة فطرة الإنسان وحدود طاقته وواقعه المادي أيضاً. وأنه في الوقت ذاته يبلغ به- كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات وكما يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة- ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق. ولكن الخطأ كله- كما تقدم- ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها; ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري; والتي تبذل فطرة الإنسان وتنشئه نشأة أخرى لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته وواقعه المادي كله! أليس هو من عند الله؟ أليس ديناً من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء؟ فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية؟ ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل؟ ثم لماذا لا ينتصر دائماً؟ ولا ينتصر أصحابه دائماً؟ لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحياناً؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحياناً؟ وكلها- كما نرى- أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها! إن الله قادر- طبعاً- على تبديل فطرة الإنسان- عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه- وكان قادراً على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى. . ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة. وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة. وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة. وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً ولا تمحى ولا تبدل ولا تعطل. وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية. وشاء أن يبلغ «الإنسان» من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة. وليس لأحد من خلقه أن يسأله: لماذا شاء هذا؟ ما دام أن أحداً من خلقه ليس إلهاً! وليس لديه العلم ولا إمكان العلم بالنظام الكلي للكون وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا «التصميم» الخاص! و «لماذا؟»- في هذا المقام- سؤال لا يسأله مؤمن جاد ولا يسأله كذلك ملحد جاد.. المؤمن لا يسأله لأنه أكثر أدباً مع الله- الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته- وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال.. والكافر لا يسأله لأنه لا يعترف بالله ابتداء. فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه- سبحانه- ومقتضى ألوهيته! ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع. لا هو مؤمن جاد ولا هو ملحد جاد.. ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه! وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية.. فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر. إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية- حتى يعرفها فهو مؤمن أو ينكرها فهو ملحد.. وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء! ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله- سبحانه- لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة؟ ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة لا تمحى ولا تعدل ولا تعطل! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية؟ ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية ويفسر التاريخ البشري على ضوئها; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى. هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام- كما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يُمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية. . إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه- بقدر طاقتها- وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ; وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة.. تجاهد الضعف البشري والهوى البشري والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين. وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج.. وتبلغ- بعد ذلك كله- من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً; ولا تغفل واقعهم ومقتضيات هذا الواقع في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها.. ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة; وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة. بقدر ما تبذل من الجهد; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب.. وقبل كل شيء وقبل كل جهد وقبل كل وسيلة.. هنالك عنصر آخر: هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض. ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج وثقتها به وتوكلها عليه. هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته وهذه هي خطته الحركية ووسيلته.. وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهو يربيها بأحداث معركة أحد; وبالتعقيب على هذه الأحداث.. حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة. وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها. وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها; وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً بغض النظر عن تصورها وتصرفها- حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة; وتعاني آلامها المريرة. ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم. إن الله على كل شيء قدير}.. ولكنه- كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص- لا يترك المسلمين عند هذه النقطة بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج; ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة.. إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري ويتأثر بتصرف البشر إزاءه.. هو خير في عمومه فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها; ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها.. ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان; ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية. . وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد والصبر على الأذى والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضاً- فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة- وحتى يتمحص القلب ويتميز الصف وتستقيم الجماعة على الطريق وتمضي فيه راشدة صاعدة متوكلة على الله. حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. لأنه يجاهد نفسه أولاً في أثناء مجاهدته للناس; وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً وهو قاعد آمن سالم; وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته وبعاداته وطباعه وبانفعالاته واستجاباته ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة المريرة. وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته وعلى حقيقة غايته; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها مدى احتمال كل لبنة ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام. وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للجماعة المسلمة وهو يربيها بالأحداث في «أحد» وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة. وهو يقول لها، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا}.. وهو يقول: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}. ثم.. وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعاً ; فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء. والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}.. وإذن فهو- في النهاية- قدر الله وتدبيره وحكمته من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات.. وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل يستقر في النفس من وراء الأحداث والتعقيب المنير على هذه الأحداث. 2- وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية وطبيعة الجهد البشري ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي: إن النفس البشرية ليست كاملة- في واقعها- ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. وها نحن أولاء نرى قطاعاً من قطاعات البشرية- كما هو وعلى الطبيعة- ممثلاً في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وهم أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق.. فماذا نرى؟ نرى مجموعة من البشر فيهم الضعف وفيهم النقص، وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم}. ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم}.. وفيهم من يقول الله عنهم: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. وفيهم من ينهزم وينكشف وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم. فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم}.. وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق. كانوا في دور التربية والتكوين. ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر مسلمين أمرهم لله مرتضين قيادته ومستسلمين لمنهجه. ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه بل رحمهم وعفا عنهم; وأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يعفو عنهم ويستغفر لهم وأمره أن يشاورهم في الأمر بعد كل ما وقع منهم وبعد كل ما وقع من جراء المشورة! نعم إنه- سبحانه- تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير.. ولكنه لم يطردهم خارج الصف ولم يقل لهم: إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف.. لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم ورباهم بالابتلاء ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات. في رحمة وفي عفو وفي سماحة; كما يربت الكبير على الصغار; وهم يكتوون بالنار ليعرفوا ويدركوا وينضجوا. وكشف لهم ضعفهم ومخبآت نفوسهم لا ليفضحهم بها ويرذلهم ويحقرهم ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملاً. ولكن ليأخذ بأيديهم ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين. ثم وصلوا.. وصلوا في النهاية وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة. وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح يخرجون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غير هيَّابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.. ولما كبروا بعد ذلك شيئاً فشيئاً.. تغيرت معاملتهم وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار. بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين تلك المؤاخذة العسيرة يجد الفرق واضحاً في المعاملة; ويجد الفرق واضحاً في مراحل التربية الإلهية العجيبة. كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد والقوم يوم تبوك.. وهم هم.. ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق.. ولكنهم مع هذا ظلوا بشراً. وظل فيهم الضعف والنقص والخطأ. ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله. إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج; ولا يبدلها أو يعطلها ولا يحملها ما لا تطيق. وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية، لتحاول وتبلغ، في ظل هذا المنهج الفريد. فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه. وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية. متخلفة في كل شيء. على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس.. وكل ذلك يعطي البشرية أملاً كبيراً في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي مهما تكن قابعة في السفح. ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر. فهي ليست وليدة خارقة عابرة. إنما هي وليدة المنهج الإلهي الذي يتحقق بالجهد البشري في حدود الطاقة البشرية- والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير! هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها ومن الواقع المادي الذي هي فيه. ثم يمضي بها صعداً كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة.. من السفح.. ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان إلى ذلك الأوج السامق.. شرط واحد لا بد أن يتحقق.. أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج. أن تؤمن به. وأن تستسلم له. وأن تتخذه قاعدة حياتها وشعار حركتها وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل.. 3- وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها.. حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان. الارتباط بين العقيدة والتصور والخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة.. فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة. والمنهج الإلهي- من ثم- يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية. مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط متكاملة في الوقت ذاته وشاملة. والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط.. وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل الذي يأخذ الحياة جملة ولا يأخذها مزقاً وتفاريق. والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعاً ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة في قبضته فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة لا تصيب النفس بالفصام ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام. ومن نماذج هذا التجميع وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه- في التعقيب القرآني- عن الخطيئة وأثرها في النصر والهزيمة. فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}.. كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا- وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به- بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب: {وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا- والله يحب الصابرين- وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنونبا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. والله يحب المحسنين}.. وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة توجيهها للتطهر والاستغفار: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.. ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم: الاعتداء والمعصية: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا- إلا بحبل من الله وحبل من الناس- وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة. ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.. وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة كما نجد الكلام عن «التقوى» وتصوير حالات المتقين يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة. ويربط بين جو السورة كلها- على اختلاف موضوعاتها- وجو المعركة. كما نجد الدعوة إلى ترك الربا وإلى طاعة الله والرسول وإلى العفو عن الناس وكظم الغيظ والإحسان.. وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية.. والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي الهام. 4- وحقيقة رابعة.. عن طبيعة منهج التربية الإسلامي.. فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث.. على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد.. وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة ليصحح تأثره ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح! وهو لا يدع جانباً من الجوانب ولا خاطرة من الخواطر ولا تصوراً من التصورات ولا استجابة من الاستجابات حتى يوجه إليها الأنظار ويسلط عليها الأنوار ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية; وبذلك يمحص الدخائل وينظفها ويطهرها في وضح النور; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم; ويقر المبادئ التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة. . مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق.. وننظر في التعقيب على غزوة أحد فنجد الدقة والعمق والشمول.. الدقة في تناول كل موقف وكل حركة وكل خالجة; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة; والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج. والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف المسيرة للحادث كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجاً عميقاً عنيفاً ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب. فهو وصف حي يستحضر المشاهد- كما لو كانت تتحرك- ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ والإيحاء المثير. 5- وحقيقة خامسة كذلك.. عن واقعية المنهج الإلهي.. فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع مزاولته بالفعل فهو لا يقدم مبادئ نظرية ولا توجيهات مجردة.. ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته. وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة هو موقفه إزاء مبدأ الشورى.. لقد كان في استطاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها- وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها- نقول كان في استطاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة مستنداً إلى رؤياه الصادقة; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة; ولم يستشر أصحابه أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع وقد خرج من بيته فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد! ولكنه- وهو يقدر النتائج كلها- أنفذ الشورى. وانفذ ما استقرت عليه ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي وتبعة العمل. لأن هذا في تقديره- صلى الله عليه وسلم- وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة. فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة وحرمانها المعرفة وحرمانها التربية! ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى- بعد المعركة كذلك- تثبيتاً للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة. فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية.. إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبداً لمزاولته إلا إذا زاولته فعلاً وإن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية- كمبدأ الشورى- شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله وأن الأخطاء في مزاولته- مهما بلغت من الجسامة- لا تبرر إلغاءه بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف. بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقاً! وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى- بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}. كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلى في تصرف الرسول- صلى الله عليه وسلم- عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين واعتباره هذا تردداً وأرجحة. وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم والشلل الحركي. فقال قولته التربوية المأثورة: «ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له». ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: {فإذا عزمت فتوكل على الله}.. فتطابق في- المنهج- التوجيه والتنفيذ.. 6- وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله.. وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله.. إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك. ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج ولا مغيراً لقيمه وموازينه الثابتة. وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم بالخطأ. وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف. ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم- مهما تكن منازلهم وأقدارهم- ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم! ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه- أياً كانوا- وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف.. فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص. والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم. وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقاً تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة. . وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام وعلى تاريخ الإسلام; إنما يحسب على أصحابه وحدهم ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه: من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.. إن تاريخ «الإسلام» ليس هو تاريخ «المسلمين» ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان! إن تاريخ «الإسلام» هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس وسلوكهم وفي أوضاع حياتهم ونظام مجتمعاتهم.. فالإسلام محور ثابت تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت. فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام وأبوا تطبيقه في حياتهم وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين ولا لأنهم يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون؟! وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للأمة المسلمة وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة ويسجل عليها النقص والضعف ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه. وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء!
|